samedi 4 décembre 2010

مراكش تشيع جنازة شهيد الوطن بدر الدين التوراهي

مراكش تشيع جنازة شهيد الوطن بدر الدين التوراهي
دفنه بمسقط رأسه جاء استجابة ملكية لطلب الأسرة





مكتب مراكش : هشام البومسهولي/ تصوير يوسف سفيني
في موكب رهيب يطبعه الحزن و الأسى، ودعت ساكنة مراكش شهيد الوطن الذي قتلته أيادي الغدر و أعداء الوطن بأحداث العيون أثناء قيامه بالواجب الوطني.



حي الجبيلات بمنطقة سيدي يوسف بن علي و الذي يوجد به منزل الشهيد عاش يومه الخميس حركة غير عادية وحالة استنفار قصوى لإلقاء النظرة الأخيرة على الفقيد و نقله الى مثواه الأخير بمقبرة باب اغمات.


حشود غفيرة من المواطنين من مختلف أحياء المدينة الحمراء وباختلاف أعمارهم (أطفال، شباب و شيوخ) نساء و رجال جمعتهم و وحدتهم الروح النضالية العالية و استماتة الشهيد بدر الدين التوراهي للدفاع عن وطنه الأم.
فمنذ الصباح الباكر و حي الجبيلات الهادئ أضحى قبلة للعديد من الشخصيات و المسؤولين للوقوف على اللمسات الأخيرة لمراسيم الدفن. مختلف المصالح والمديريات كانت حاضرة لتقديم الدعم اللازم لاستقبال جثمان الشهيد،ومعظم شباب المنطقة كانوا صانعي الحدث منذ اليوم الأول حيث ساهموا بالقدر الأوفر في ترتيب و ثأتيث جنبات منزل بدر الدين.



زوال نفس اليوم,عرف لحظة وصول موكب الدرك الملكي مصحوبا بجثة الشهيد دينامية غير متوقعة حيث جل أروقة الحي كانت مؤثتة بالأعلام الوطنية و صور الشهيد تعبيرا عن التعبئة الوطنية و التضامن مع روح شهيد الوطن بالإضافة الى هتافات الحضور بالرحمة و المغفرة للفقيد.
كما اجمع جل الحضور الذي عاين جنازة الشهيد في موكبه الرسمي على روح التضامن العالية لمختلف السلطات وحضور جل مديري و رؤساء المصالح على اختلاف مشاربها و على رأسهم والي جهة مراكش السيد محمد مهيدية و قيادة الدرك الملكي الذي شارك عدد كبير من عناصره في تشييع جنازة زميلهم الراحل ، و كذا التنظيم الجيد لمراسيم الجنازة و الدفن.
السيد ابراهيم التوراهي والد الشهيد بدر الدين عبر للاتحاد الاشتراكي عن حزنه العميق لفقدان أحد فلدة كبده لكن عبر عن سعادته للرعاية السامية لصاحب الجلالة و عطفه الجليل تجاه عائلته، كما شدد أن نصرة الوطن هي تاج و فخر للعائلة بكاملها وأن أرواح المغاربة كانت و ستبقى فداء للمغرب و لملكه.
و ذكر مقربون من أسرة الفقيد بدر الدين التوراهي أن جلالة الملك واسى شخصيا عبر مكالمة هاتفية والدي الراحل و أن دفنه بمراكش كان استجابة ملكية لطلب والدته بعد أن كان قد تقرر دفنه بمقبرة الشهداء بالرباط .

ما الذي تبقى من ساحة جامع الفنا ؟

ذهبت الصورة وبقيت الظلال




تقــــــديـــــــــم : عبد الصمد الكباص



لا شيء يدعو اليوم للارتياح لما تجتازه ساحة جامع الفنا . الحكواتيون ينقرضون تباعا . و الفرجة التي كان يتحف بها نجوم الساحة أمثال ميخي و طبيب الحشرات و الصاروخ و الشرقاوي مول الحمام جمهورهم اضحت مجرد ذكريات يستعيدها البعض بعد اختفاء روادها الذين اختفت معهم التعليقات الساخرة المواكبة للأحداث السياسية و التطورات الاجتماعية و الاقتصادية التي يعرفها المغرب أو يجتازها العالم . و تلاشى كيان الحلقة التلقائي الذي كان موردا غنيا لإخصاب خيال الناس و إنعاشه بصور تصوغها قصص الحكواتيين و بلاغة الساخرين بجمالية يعز نظيرها ، لتتحول إلى عالم مفبرك كل شيء فيه مصطنع يندر فيه ما يمتع باستثناء القليل .
كان طبيب الحشرات يسخر من واقع الساحة في زمانه قائلا " لو مرّ مهندس الحلاقي من هنا لأمر بتهديم الكثير من الحلاقي بجامع الفنا " مستعيرا بذلك فكرة مهندس البلدية الذي يراقب البناء . الغريب هو أن هذا الموقف الساخر الناقد لوضع الساحة صدر عن نجم من نجومها في لحظة كانت ما تزال تحافظ على ألقها . ترى ما الذي كان سيقوله طبيب الحشرات عن الحلقة بفضاء الساحة الأسطورية اليوم لو أمهله الموت قليلا؟ فقد زحفت المطاعم الشعبية بلا تحفظ لتطرد بقايا الحلقة و تحاصرها في هامش ضئيل لا يليق لا بتاريخها و لا برمزيتها و لابقيمتها كتراث شفوي . و أضحت جامع الفنا ساحة للباعة المتجولين و المتسولين و اللصوص و المتحرشين جنسيا بالنساء و الأطفال و العاهرات المتلقفات لعطايا المهووسين الأجانب . و وجد رجل الحلقة نفسه في ظل هذا الوضع أعزلا إلا من من ماض مشرق للساحة حوّله بنوستالجية إلى زمن ذهبي مضى و انقضى ، بعدما تكاثر حوله المدّعون و المبهرجون ، وبعدما فقدت الساحة نظامها و انفض من حولها جمهورها الوفي إلا من زوار استردجتهم أدخنة النقانق المشوية و رؤوس الغنم المبخرة أكثر مما استدرجتهم فتنة الحكي و بهجة الفرجة .
ما الذي استفاده رجل الحلقة من الإقلاع السياحي الذي عرفته مراكش في العشرية الأخيرة ؟ و كيف انعكست كل تلك المليارات من الدراهم التي تحدث عنها المسؤولون كمداخيل للقطاع بالمدينة الحمراء على الساحة و فنانينها خلال هذا العقد ؟ ألم يكن المنتوج الثقافي الأساسي الذي تبيع به مراكش لياليها السياحية و تستدرج به الملايين من السياح من مختلف أصقاع الأرض هو جامع الفنا ؟ أليس المعيار الأساسي الذي تستقطب به الفنادق الكبيرة زبناءها الأجانب هو القرب من الساحة ؟ ما الذي جنته إذن من كل هذا هي و فنانوها ؟ لا شيء . فقد تركت جامع الفنا لمصيرها كتجمع عشوائي للمطاعم الشعبية التي يتضخم عددها و حجمها يوما بعد يوم ، مقابل موت بطيء للحلقة كعالم بنته الفرجة الممتعة و الحكي الفاتن . و تقاعست السلطات المحلية و المجلس الجماعي عن توجيه جزء من واجبات الرسوم المستخلصة من النشاط السياحي لفائدة الساحة و أرباب حلقاتها لمنحهم وضعا يضمن كرامتهم و يؤمنهم اتجاه مفاجآت المرض و الشيخوخة و يشجعهم على الاستمرار في أدائهم الفني الباهر . فاليوم لم يعد من عالم شيق يسمى الحلقة بجامع الفنا عدا ما جمعه الكتاب من انطباعات عنها و ما رسخه الرحالة لها من توصيف .
أكثر من ذلك فالعشرات من المقاهي و المطاعم تحيط بساحة جامع الفنا و تكتظ بزبنائها فقط لأن الساحة تقابلها و فنانوها يؤدون باستمرار على خشبتها عروضهم . و مع ذلك ، و رغم الأموال الطائلة التي تتراكم في صناديق هذه المحلات إلا أنها لا تسهم و لو بسنتيم واحد في تطوير الساحة و تحفيز أرباب الحلقة على تجويد أدائهم أكثر و تحميسهم على مواصلة عطائهم و ضمان استمراريته في المستقبل .
مرة أخرى ما الذي استفادته الساحة من تصنيفها تراثا شفويا إنسانيا عدا نصب تذكار بئيس بواجهة مهشمة يظهر حينا و يختفي أحيانا أخرى . ربما أن ذلك كما قال خوان غويتيصوللو سيضمن ألا تتحول جامع الفنا يوما ما إلى موقف للسيارات . غير ذلك لم يحدث شيء لصالح أرباب الحلاقي ولا لصالح تحسين وضع الساحة و تحصين محتواها الثقافي و تقوية رمزيتها التاريخية كرصيد لا ينبغي التعامل مع أشكال اندثاره و مقدماتها البادية للعيان ببرود و لا مبالاة .بل تضخمت الجمعيات المؤسسة حول الساحة و تكاثرت خطاباتها و دخلت في منافسة حول شرعية احتكار ملف هذا الموقع لحسابها . و دائما دون أدنى طائلة تذكر . و حتى المثقفون و الكتاب سواء المراكشيين منهم أو المغاربة عموما تقاعسوا بدورهم في التوثيق للمحتوى الشفوي للساحة و جمع متنه باعتباره تراثا قيد الاندثار باستثناء مجهودات قليلة و متفرقة . و لم ترع أية مؤسسة عمومية أو خاصة ، حكومية أو مدنية مثل هذا المشروع الثمين . و لم يعمل المثقفون و لا الجمعيات بجدية على حمل المجلس الجماعي لمراكش و السلطة المكفول لها تدبير الشأن الثقافي على تأسيس متحف جامع الفنا يوثق لقدماء فنانيها من أرباب الحلقة لمختلف الوجوه التي مرت منها .
و بشكل مفارق لم تجد سلطات مراكش في موقف تاريخي مأسوف عليه ، من مظهر يسيء للساحة و قيمتها عدا الكتب و الكتبيين الذين ساهموا منذ عقود في منحها قيمة مضافة . فطردوهم منها شر طردة بعدما نفوهم إلى مقبرة سيدي غريب ثم حديقة عرصة البيلك ثم سوق الازدهار بباب دكالة إلى أن جاء عهد الوالي حصاد فلم يجد من مظهر مقرف خلف سور باب دكالة غير الكتب و باعتهم فترك مواقف الحمير و البغال و ركام الأزبال و تجمعات اللصوص و المتسولين المرابطين هناك ليهدم محلات الكتبيين على رؤوس أصحابها فدفنت الجرافات في مشهد اقرب إلى إبادة ثقافية الآلاف من الكتب تحت الانقاض ليسجن عدد من الكتبيين بعد تشريد أسرهم في أكشاك حقيرة لا تعكس القيمة الحضارية للكتاب خلف السور بجوار صعب لشلالات من البول المتدفق بالمكان . و إلى اليوم تواصل السلطات المحلية التي تركت كل الأشكال الفادحة لاحتلال الملك العمومي بالمكان ، تضييق الخناق على الحضور الثقافي بمحيط ساحة جامع الفنا من خلال مطاردة الفناننين رسامي البورتريه المتواجدين بممر البرانس المطل على الساحة و العمل على إجلائهم من المكان ، في الوقت الذي كان من المفروض فيه أن تعزز حضورهم المشرق و تؤمن موقعا محترما لهم بالساحة أو بمحيطها . عاكسة بموقفها هذا احتقارا واضحا لقيمة الفن و الفنانين .
منذ أزيد من عقد كتب خوان غويتيصوللو قائلا " لقد اتصل بي أحدهم هاتفيا ليطلب مني أن أساعده على خلق فضاء كفضاء الساحة في مدينة إسبانية .أجبته بطريقة جد بسيطة : إن ساحة جامع الفناء يمكن هدمها بمرسوم ولكن لا يمكن خلقها بمرسوم." كم يلزم من الوقت إذن ليقتنع المسؤولون مهما كانت صفتهم محلية أم وطنية بالمؤدى الخطير لهذه القولة .

هناك وضع ثقافي استثنائي في الساحة تكرس عبر تاريخها يجعل تحصينها أمرا مستعجلا يوضح ضرورته خوان قائلا : "يجب الحفاظ عليها .. يجب احترام التراث. إن الحكاة مثلا هم أشخاص ليسوا مثقفين متناسقي الأجزاء، ليسوا مندمجين… هناك عفوية، يظهرون بشكل عفوي أو يكتشفون هوايتهم في الساحة. أذكر كمثال واضح جدا: الصاروخ، حرفيا "الكويطى" (يدعونـه أيضا "السبوتنيك" لأنه كان يتكلم كثيرا عن الرماية)، الذي كان في بدايـة الأمر يرتّل القرآن عن ظهر قلب. كان رجلا قويا جدا. تعب يوما ما من الترتيل أو ربما لم يعطه الناس نقودا أو انصرفوا عنه … حينئذ أخذ حمارا كان هناك فرفعه إلى فوق وحمله فوق كتفيه فاجتمعت الحلقة في الحين وعند ذلك قال الصاروخ : "عندما كنت أقرأ عليكم كلام الله لم يكن أحد يستمع إلي أما الآن وأنا أرفع حمارا جاء الجميع ليسمعني… من أنتم …؟أشخاص أم حيوانات؟" منذ ذلك الحين غيّر كليا تخصصه، وبدأ بنقد الشعب والمجتمع المغربي منتسبا إلى التراث الفكاهي والهجائي الذي كان يهزأ فيه كثيرا بالجمهور الذي كان يساهم في الحلقة . كان هناك دائما متفرج يتخذه كضحية لسخرياته. واستمر في هذا التقليد وكان يمزجه كالعادة بترتيل سور قرآنية أو ابتهالات دينية."
أين هي جامع الفنا التي قال عنها خوان غويتيصوللو أنها كانت دائما فضاء سلميا تهيمن عليه السخرية ؟ أين تلك الساحة التي كان الناس يقصدونها لسماع الموسيقى و الاستمتاع بقصص الحكواتيين لتجديد دهشة حواسهم و فتنة تذوقهم للحياة . ذهبت الصورة و بقيت الظلال فقط . ألا يحق لنا بعد كل هذا أن نتساءل اليوم ما الذي تبقى من ساحة جامع الفنا؟




المبدع عبد الرفيع جواهيري يقول:
في ساحة الفناء .. الفناء له معنى آخر لم يفلح في تحييثه كتبة التاريخ.
· محمد المبارك البومسهولي
قال عبد الرفيع جواهيري ذات مرة:
"مسقط رأسي فاس، ومسقط قلبي مراكش"
بمعني أن ولادة العشق كانت بمراكش، والعاشق ها هنا ليس مجرد عابر لهذا الكون كأيها الناس، لكن العاشق هو مبدع يملك قلبا ببصيرة تمسح جغرافية الكون.. وحين تستقر بوصلته في مراكش فما على هذه المدينة إلا أن تتزين لملقاة عاشقها غير العادي على أُوبرا الفن والإبداع ولن تكون هذه الأبرا إلا " ساحة جامع الفناء"
في التسعينيات من القرن الماضي كثيرا ما وجدت شاعرنا جواهيري يتجول في الساحة ويقف بطول نفس في هذه الحلقة وتلك.. ولتكرار ما وجدته في الساحة أدركت أنه لا يأتي فقط للترفيه أو الفرجة والابتعاد شيئا ما عن يومه المثقل بهموم السياسة والمتخن بملفات الدفاع عن حقوق المواطنين كمحامي وحقوقي,, يل يأتي لساحة الإبداع لأنه بلا شك يعيش مخاضا إبداعيا.. كنت أعلم أنه يجمع الأمثال الشعبية لكنني لم أدرك أنه يعد لكتاب عن ساحة جامع الفناء إلى أن فوجئت في صيف 2001 بكتاب له يحمل عنوان " جامع الفناء… الصورة وظلالها.."
عندها تيقنت أن التردد اليومي للأستاذ عبد الرفيع جواهيري لساحة جامع الفناء قد أثمر عملا لا يقل إبداعية عن نصوصه الشعرية البادخة، وهوما جعلنا نتطرق إلى بعض ما جاء في هذا الكتاب في ملفنا عن الساحة,
يقول جواهيري عنصورة الساحة و ظلالها وعن معنى الفناء:

"يخدعك المكان هنا لأنه يكاد ينسيك ارتباطه بجغرافية ما لولا عناد اللغة.
لغة هاربة من قمعها تمارس زندقتها على أبهة الوقت و تطوح بالزمان في غياهب سريالية.
أنت الآن مثل عنوان تلك الرواية العذبة "كائن لا تحتمل خفته".
أنت الآن في ساحة الفناء حيث الفناء له معنى آخر لم يفلح في تحييثه كتبة التاريخ.
هاهنا للفناء مرجعية تمتح من يوم الحشر هيجانه واختلاط الحابل بالنابل.
هاهنا للفناء معنى التدافع بالمناكب في يوم الذهول.
‏ساحة الفناء حيث ضجة المحشر الأعظم.
‏لفات متعددة برغم تلاوينها، تخرج من قمقم واحد لتبسط سلطانها عليك.
هنا الغابة والصحراء.
‏هنا المضمر الذي في فمه ماء… و الفضيحة اللذيذة التي تمارس عصيانها على ورقة ‏التوت.
‏ساحة الفناء حيث يفنى الواقع في سحر الخرافة، هنا يفتك التخييل بعتو الأشياء.
لا معنى للملاحم والغزوات والأبطال إلا ما يغدقه عليهم لسان الراوي.
‏اعطني لاوعيك أعطيك دهشة السرد وأعاجيب القص.. هكذا تقول قسمات الرجل الذي ‏يتوسط الحلقة. "
وفي إبداعية متميزة ينتقل بنا عبد الرفيع جواهيري عبر فضاءات الساحة وحلقاتها واصفا ذلك بدقة متناهية ماسحا كل الحركات والسكنات بما فيها الأحاسيس عبر الصور المتدافعة من الضوء والظلال يقول:

"السارد يطلق السرود من لسانه مثلما يطلق الحاوي حمامة من كم معطفه.
السارد يقتل السراد جميعا لينفرد بفضة الكلام.
خفة الكلمات تجنح بك، ولؤلؤة الحكي يخطف بريقها رمشتك الأولى ليسلمك عند النهاية المؤقتة إلى طاقية الراوي المبسوطة على راحة يده وهي دعوة لرفقة، لك أن ترحب بها ببعض ما في جيبك أو تعلن ندامتك.
‏اختر سحر الخرافة أو ضجة الصنوج…
‏لك أن تمارس تيهانك بين قفزات القرود أو تلولب الأفاعي.
لا حدود فارقة بين السيرك وكراسي الموعظة…
بين هجهوج وقراقيش كناوة وبين راقصي أحواش.
جوار بين بيض النعام وأوراق البصارات،بين ناقشات الحناء والعشابين رفقة آثمة بين ‏عطر الشيح النفزاوي وبركة السيرة.
‏حلقه لأعطاب الروح والجسد.
‏وحلقة تسربلها عافية الأجساد يبني فيها حفدة "احماد أموس" معمارا جسديا لسلطة لم يبق منها سوى رمزية الامتداد إلى ما هو علوي .. إنه الإنتصار على فناء لم يستطع أن يمنع الأجساد من الاحتفال بتاريخ قوضته وحشية الماضي في قمم الجبال.
صيحات "اولاد احماد اموس" صيحات نصر مفتقد، والهرم الذي يبنونه بأجسادهم و يقف على قمته طفل يانع، لغة تؤدي معنى الأمل.
وحين تتقدم عربة المساء في زحمة يوم الذهول الأعظم، يعلن الاكتظاظ واللغط هندسة الفناء في الشكل، ويرسح في الجوهر إشراقة البقاء وعنفوان الحياة.
‏ساحة الفناء في غلاف يوم قيامة، لكن الصراط هنا ملتو يلتبس فيه الفناء بالبقاء يأخذك من يدك في لطافة ليقدم لك تفاحة الخروج من الجنة لتحس بفداحة أدميتك.
الدخول إلى ساحة الفناء كأنما يحدث وأنت في الكرى.
‏والخروج من فناء الساحة يترك في حلقك طعم الجرعة الأخيرة من قعر البراد.
من دخل إليها كتبه عليه أن يعود. إنه الخدر الذي سيظل يمارس سطوته عليك.
سيظل عطرها الآسر يفرض عليك سطوته.
إن متعة الدخول إلى ملكوتها تمنحك شهوانية الخروج.. الخروج من ماء الزمن الآسن… الخروج من موت المكان. تلك هي ثقافة الساحة… ثقافة الخروج.
‏الخروج الذي يعني أنها منفلتة عن الهندسة والتاريخ، فهي لم يخططها معماري ولم تكن بقرار حاكم.
‏إنها جبروت عفوي يصيبك بالعشق منذ الرمشة الأولى.
‏باسم ذلك العشق سوف "تقرقب سواريت الربح" بدون أن تشعر، للرجل الذي يجعل الحمار يدخن ويتصنع الموت ثم يحيا كندما يأمره صاحب الحلقة.
‏وفي الليل تتخلى عن أبهتك عندما يسيل لعابك أمام رائحة التوابل وصنوف الأطعمة و الأشربة.
‏ ستقتعد الكراسي البلدية تحت ضوء الفوانيس وستلتهم رغم حميتك الصارمة "طنجية "
‏تكاد تأكل من لذتها أصابعك.
‏أفانين من الطعام الطري تخرجك من زيفك المدني لتعيدك إلى تلك البساطة المفتقدة.
‏بكم تريد أن تأكل؟
‏ستأكل جيدا بالذي معك وبدون ضريبة على القيمة المضافة.
‏ستجد نفسك في مطعم كوني يلغي الحدود بين الأجناس.
‏انظر إلى فتيات الغرب الأنيقات يأكلن بدون شوكة وبدون سكين ثم يلحسن أصابعهن.
إنه يوم فناء من نوع آخر حيث تفنى الفوارق بين ذرية آدم وحواء… الحرفي وصاحب الحلقة الذي نفحته ببعض قروشك، يأكلان إلى جانبك وإلى جانب الأرستقراطي الذي ترك عجرفته في مدينته وانحشر في ساحة الفناء.
‏تختلط لغات الأرض وملامح من كل الأجناس بتوابل لا تبقى ولا تذر، لشهية آبقة أو ‏عجرفة مكابرة.
‏انظر كيف تتعايش هذه الأمشاج.
‏ لا تسأل عن الخبر.. فلا معنى للأسئلة هنا..
لا تبحث عن أي معنى.
إن المعنى هنا في اللامعنى. تذكر فقط أبا العباس السبتي، فهو هنا من وراء المعنى يضع رجلا على رجل يمسد لحيته البيضاء ولا يهنأ إلا بعد أن يتعشى الدخلاني والبراني.
بجاه رايس الرياس
‏عليه الناس تنده من كل اجناس.
عساس البهجة الحمرا
امفاجي ضيم الحوز مولا قبة خضرا
الشيخ سيدي بالعباس
حاط رجل على رجل
ما يتهنا حتى ‏يتعشى
الدخلاني والبراني…
‏في المقاهي المعلقة المطلة على الساحة ستضع مثل أبي العباس السبتي رجلا على رجل… ستضع أمامك كأس الشاي البلدي العجيب بحوصلته المنتفخة المليئة بالنعناع الأخضر وسترى أن الساحة من فوق ليست هي الساحة من تحت.
‏ستتناهى إلى سمعك نغمات الغيطة وصدى الطبول وحفيف نقرات "السنتير"وضجة
لذيذة تخترق أدخنة عربات الطعام.
‏ستتلألأ الساحة بفوانيسها تحت ناظريك وسترى البشر كالنمل يتدافعون بالمناكب حتى ليخيل إليك أنك إذا رميت إبرة سوف تقع على رأس عابر أو عابرة.
‏ألم اقل لك إن للفناء هنا معنى هاربا من متون كتبة التاريخ. هذا فناء ينتمي في شكله إلى ضجة الحشر ويفترق عنه في جوهره من حيث أن فناء الساحة ما كان عدما وما ينبغي له."

أمام كل هذه الصور التي نقلها لنا جواهيري بلغته الشاعيرية، أبى إلا أن يخبرنا بسر ولع الكتاب والمبدعين بهده الساحة المدهشة التي لا يمكن أن تدخل إليها أو تخرج منها دون أن تترك في دواخلك اثرا ما، يقول المبدع عبد الرفيع جواهيري في نصه الجميل هذا:

"والآن أنت تغادر هذا الفناء المصر على البقاء ستشعر وكأنك خارج من بين الصلب والترائب.
‏آنئذ ستفهم لماذا كتب "كانيتي" الحائز على جائزة نوبل في الآداب كتابه "أصوات
مراكش" وستتلذذ حقا برواية ` المقبرة الخوان كويتيسولو…
‏في المرة القادمة يمكنك أن تجد نفسك صدفة تحتسي قهوتك في مقهى بجوار الساحة ‏إلى جانب هذا الإسباني بحكم الجنسية، المراكشي بحكم الحنين…
‏وللذكرى ضع في أذنيك هذه الكلمات التي كتبها "خوان " عن جامع الفنا:
‏`… وعلى نور مصابيح الغاز تراءى لي حضور كاتب "كاركانتوريا"ا واخوان رويس
و"تشاوستر"ا و "أبي زيد "الحريري" وكذا عدد كبير من الدراويش. أما صورة ذلك البليد ‏الذي يتبادل القبل مع تلفونه المتنقل فرغم بذاءتها لا تشوه شفافية هذا الفضاء المثالي ولا تبخسه… ‏تتوهج الكلمات وتتألق وتمد في عمر هذا الملكوت الخارق، لكن الخطر المحدق بالساحة يقلقني أحيانا فيتفون الخوف سؤالا على شفتي .. إلى متى؟. "
ساحة جامع الفنا : أزمة التدبير أم تدبير الأزمة ؟
هشام البومسهولي
في الوقت الذي تعيش فيه المدينة الحمراء غليانا في جل أروقتها العتيقة و الحديثة، يلاحظ المتتبع للشأن المحلي حركة غير عادية سخرت لها كل الإمكانيات والتجهيزات للقيام بتلميع وتبليط الواجهات و الشوارع الرئيسية للمدينة.
الساحة الكبرى للمدينة "ساحة جامع الفنا" هي التي انسلت عنها أعين المسؤولين و تركت وحدها عرضة للتهميش واللامسؤولية حيث الفوضى و سوء التدبير ينذران بسحب تاج منظمة اليونسكو كتراث عالمي لا مادي.
فكل زائر للساحة الشهيرة يكون عرضة لتسيب مجموعات لا منتهية تحاول استقطابه لأية وجهة أو لأية وسيلة لاستخلاص أقل أو أكثر من الدراهم وهذا السلوك أصبح واحدا من حلقات "الفرجة" بالساحة.
الخطير في الأمر هو ما حدث مؤخرا من انتشار جيش من الباعة المتجولين وسط الساحة و على جنباتها ، حيث باعة الفوانيس و ألعاب الأطفال و آخرون يملؤون الفضاء بعشوائية محكمة و أمام أنظار المسؤولين.
و الأخطر أن بعض باعة هاته الألعاب يعمدون للعب بها في سماء الساحة الشهيرة لتسقط على رؤوس المارة و رواد جامع الفناء. انه لأمر جد مخجل أن تعيش الساحة الخالدة هذا الانحطاط الحقير و العبث براحة زوار الساحة المحليين و الأجانب ما خلق عدة اصطدامات و مواجهات.
لهذا الغرض وجب التدخل الحازم لإنقاذ ما يمكن انقاده و إرجاع الأمور الى طبيعتها والضرب على أيدي المتلاعبين بدواليب الساحة الخالدة رحمة بثرانا و هويتنا و ضمانا لراحة و طمأنينتنا.

الباحث والكاتب عبد الرحمان الملحوني يقول :
أضحت الساحة تئن أنينا في كل فضاء من فضاءاتها و تقدم مناخا جافا، وأدبا مطبوخا

· محمد المبارك البومسهولي
الباحث والكاتب المغربي المراكشي الاستاذ عبد الرحمان الملحوني تناول ساحة جامع الفناء في الكثير من أبحاثه ومن مختلف الزوايا ولعل كتابه" ذاكرة مراكش…صور من تاريخ وأدبيات الحلقة بساحة جامع الفناء" يعد بحق من أهم ما كتب عن الساحة حيث تعامل مع الموضوع برصانة الباحث المتمكن، وبإبداعية العاشق المتأمل بالبصيرة قبل البصر، وتلك حنكة المتفوقين من أهل الإعلام، و بمنهجية الأكاديمي العالم..
ومن خلال هذا الكتاب الذي يعد بحق وثيقة متميزة نلامس موضوع ملفنا حول ما الذي تبقى من ساحة جامع الفناء؟
يقول الأستاذ الملحوني:
"‏….أمامي مجموعة من صور ساحة جامع الفنا، أخذت أتأملها وأجيد التفكير في ما تضمنته في داخلها من مشاهد قديمة، وكأنني في كل صورة أعيش فترة من فتراتها التاريخية السحقية.
نعم، فهناك صورة قديمة جدا جذبتني إليها معالمها بدون شعور، ‏إنها صورة رجل من أحواز مراكش كما يبدو في زيه ، منهوك القوى، يجلس إلى جوار طفل غض مأخوذا بحركات الحكواتي، مادّا ساقيه على الأرض. ترى - كما أتختل- هل رقد الرجل في جلسته - من تعب السفر - رقدة النعاس ؟ أو غفا غفوة السارح في أحلامه، أو المخمور ، أو المتأمل في ما كان يسرد السارد من فصول ما يقدم من حكايات وقصص !! نعم لقد امتد بي الخيال طويلا فصرت أتصور ماذا يمكن أن يحدث داخل الحلقة بين هذا الرجل الغريب، وبين لحلايقي الحكواتي ؟ لأن الرجل كان يأخذ حيزا كبيرا في جلسته، وهو على وضع لم يألفه صاحب الحلقة من رواده، وجمهوره العريض الذي يلتف به كل صباح ومساء، وكل يوم من أيام الأسبوع، ما عدا يوم الجمعة لقد كانت الحلقة بساحة جامع الفنا- ‏أيام زمان- فرصة "سانحة" للغرباء زائري المدينة، ففيها ‏يأخذون استراحتهم من تعب السفر، وفيها أيضا يجدون العطف و المحبة من صاحبها، ما داموا ينفحونه بشيء من النقود ، من حين لآخر. نعم، فهو –وحده-سيد الموقف، ومالك الزمام ، يمضي في تعاليمه في جرأة وبسالة ، ليخلو الجو العام من أوهام الحلقة وأشباحها٠‏إذن، فرجل الحلقة في كل دور من أدواره، تجده يهزم الأوهام والأشباح بقوة خياله الجانح، فيخلق لنفسه عالما آخر، وهو يسرد سيرة من السير، أو حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، أو أسطورة من أساطير الجن. نعم، إنه بهذا الخيال يحيا الحياة التي يتصور معالمها بمدى قربه أو بعده عما يمكن تحقيقه ، فيزيل العوائق من طريقه، ويشطح بهذا الخيال نحو المستحيل عند غيره إذن، فهو-في هذا الحال - لا يتقيد - أبدا- خياله بقيود المستطاع ، فهذا خيال ‏الذي يحلم به العقلاء !! أما رجل الحلقة، فيرسل لخياله العنان، بمقدار ما يمكن ذلك الخيال من إبداع فني جميل، لا يكبو جواده معه ولا يتعثر، وهو يسرد، أو يرقص، أو يعزف لحنا جميلا لجماعته ا‏لشعبية العريضة."
يقف الأستاذ الملحوني عند الكثير من الفوارق وهو يتأمل صور الماضي ليقارنها بصور الحاضر ليدرك أن ملامح الساحة وتقاسيم وجهها قد تغيرت حيث يقول:
"حين نضع اليوم بين أيدينا صورة تذكارية من الصور الحالية، القريبة العهد، نرى أن كل شيء قد تغير في معمار الساحة، وحتى الجمهور من العينة القديمة قد أخذ يتقلص يوما بعد يوم، يغيب بغياب رواد الحلقة وأعلامها، فغدا القائمون بشؤون الحلقة وطقوسها، لا يوفرون لزبنائهم مناخا فنيا ، وثقافيا أصيلا.
‏وعليه ، فالساحة المثقلة بمشاهد شتى من تاريخ مراكش، و المزهوة بكثافة أعمال فرسانها ، وأبطالها ، أضحت تئن أنينا في كل فضاء من فضاءاتها، حيث تقدم مناخا جافا، وأدبا مطبوخا، ومطبوعا بطابع التلقائية والعفوية الساذجة ، فجفت -من روافدها- معين الخلق والإبداع الأصيل. هذا بعدما كانت الساحة تقدم لزوارها عروضا رصينة، وبدائع أخرى من الفنون الجميلة الأخاذة، تهديها من عصارة حضارة مراكش ، مقتبسة من أصالتها ، ومن نبع معارفها، وثقافة ‏ساكنتها، إن فضاء اليوم ، تغيب فيه مواهب وقدرات رجل الحلقة - في كل صنف من أصنافها، وفي كل جنس من أجناسها- كما ‏عرفها جيل الأمس الذي كان يتفاعل مع الظروف الاجتماعية التي كانت تعيشها البلاد، متجاوبا مع معطيات المحيط الفني، والثقافي، ‏مما قد أهله تأهلا ليخوض معارك شتى ، يصارع الحياة ، والحياة تصرعه، ومع هذا التفاعل تسنى له أن يمثل بعض الأدوار الطلائعية الكبرى، معبرا عن موقف الجماعة الشعبية العريضة في جرأة ‏وشجاعة. نعم ، فلقد كان لحلايقي القديم: قصاصا ماهرا، وممثلا موهوبا، ومنشدا أصيلا، وواعظا أمينا، ونكاتا ظربفا، ومشعوذا نبيها يفظا !! ففى هزلياته، ومستملحاته، العديد من أنماط الحلقة الناجحة التي استوفت في نطاقها العام شروط الإبداع : انه إبداع من طراز آخر، يستهوي رواد الحلقة ويأخذ بلبهم وإعجابهم.
‏نعم، فالتحديات التي تطبع عمل رجل الحلقة هي التي كانت تشكل طبيعة عمله الإبداعي الجميل ويجعله يتلقى من داخل الذات الوقود الروحي الذي تستمر به مواهبه وعطاءاته إلى حين.
‏إذن، فذات الفنان الأصيل تكشف عن جواهره الثمينة من خلال إبداعاته المتنوعة التي كانت تسمو بها معارفه، وتتجدد أصالته وعبقريته."
وعن الوجه الخفي في تاريخ الساحة ، وآفاق المستقبل يطرح الباحث عبد الرحمان الملحوني أسئلة كثيرة في كتابه "ذاكرة مراكش" أهمها ما يتعلق بدور الجهات المسؤولة عن تسيير الشأن العام المحلي حيث يقول :
‏"هناك أسئلة كثيرة تطرح اليوم في نطاق الاهتمام بساحة جامع الفناء ، والكشف عن الوجه الخفي في تاريخها ، وآفاق مستقبلها. ولعل السؤال الرئيسي عند المهتمين بهذه الساحة .وهو أكثر إلحاحا من غيره، وعند كثيرين من ساكنة المدينة ، ومن خارجها ،المولعين بالفرجة والتسلية ، هو: ‏كيف تتصور الجماعات المحلية مستقبل الساحة وأدوارها الفنية، والثقافية في الألفية الثالثة وعلى تعاقب الأجيال ، وتوالي الأيام والسنين ´؟
‏نعم ، انه سؤال عريض وهام ، ولكن ، ما أسهل اليوم على الناس أن يقولوا: ‏إن لديهم أفكارا في كذا ، وكذا ، أفكارا اجتماعية ، واقتصادية ، سياسية ، وطنية، دينية تخص الساحة, والمهم عندنا :‏متى تخرج هذه الأفكار إلى حيز الوجود ؟
إذن ، فالجماعات المحلية لها تصور عام تعقد من اجل الإعلان عند عدة لقاءات ، وندوات ولكن ، تبقى دار لقمان على ما عليها ، وأخيرا تحولت الساحة إلى مطعم للسياح يأخذ حيزا كبيرا، ويضايق على مجموعة من الحلقات ، التي كانت بالأمس تمارس نشاطاتها بكل حرية. وبهذا انصرفت الساحة عن وظيفتها ، وأخذت الظروف الآن تعمل على تذويب الكثير من الفضاءات التي عصفت بالمشروع الفني، الثقافي الكبير، الذي كانت تحلم به ساكنة المدينة وباقتراح الجماعات المحلية على لسان المجتمع المدني. وبهذا غدا المشروع الفني والثقافي ، يغشاه اليوم ما يغشاه من الفتور والهمود إلى حين. "
جامع الفنا في نهاية القرن 19 و بداية القرن العشرين :
ساحة للفرح و مملكة للحكواتيين


عبد الصمد الكباص

ما الذي تبقى من ساحة جامع الفنا بعدما اكتسحتها المطاعم الشعبية و حاصرتها المقاهي التي ارتفع علو بعضها بشكل مقزز ليحاصر جمالية المكان و يخنق الرؤية كما لو كانت المدينة بلا مسؤولين و لا ضمير يقظ و لا قانون يحكمها سوى قانون الفوضى و العشوائية المفرغ من كل حس حضاري . حتى غدت الساحة بعدما فقدت كل نجومها مثل الحكواتي الشهير " كبيري " و " برغوت " و حكيم زمانه " طبيب الحشرات " و" ميخي" و" الصاروخ" و " الشرقاوي مول الحمام "و غيرهم ، محجا لتجمع كل أشكال اللصوصية و الدعارة و التسول و النصب ، ليختفي ذلك الفضاء الأسطوري المدهش الذي بناه الحكواتيون و الفنانون والوعاظ الأطباء الشعبيون الذين كانوا ينسجون بأناقة و تلقائية أدبا شعبيا جميلا ممتعا و رشيقا يحقق نشوة الفرجة لجمهوره و متعة الإنصات لمحبيه الذين يزورون الساحة عند كل مساء فيعودون منها بخيال دافق لاحدود له .
هل ما زالت جامع الفنا ساحة للفرح كما جاء في وصف لها يعود إلى القرن التاسع عشر ؟ و هل ما زالت مملكة الحكواتيين كما كانت تدرك لدى كل من كتب عنها خلال القرنين المنصرمين . للوقوف عند حجم ما فقدته اليوم الساحة الاسطورية التي أضحت مطعما شاسعا أكثر منه فضاء للاحتفالية و الفرجة ، نقترح العودة إلى ما قدمته العين الأجنبية من وصف لماضيها . الأول يعود إلى سنة 1917 و الثاني إلى سنة 1884 .
أورد أحمد حصري بن الشرقي في كتابه " ارتسامات و معطيات تاريخية حول مدينة مراكش " شهادة للأخوين جان و جاك طارو اللذين زارا مراكش سنة 1917 و قدما وصفا لما كانت عليه ساحة جامع الفنا حينها في كتابهما " مراكش أو سادة الأطلس " . و مما جاء فيها نقرأ :
" .. الأسنان بيضاء ، و الأجساد تتحرك بدون عناء من لباس صوفي ملتف يغطي نصف الجسد .أناس أتوا من جميع الجهات القروية : من الجبال و السهول مع حميرهم ، و جمالهم ، برابر ، عرب سود ، جميع أنواع الألوان البشرية ، من لون الخبز الناضج على ما تطبعه الشمس الحارقة على البشرة .
كل هذه الجموع المتحركة تتجه نحو مقاصدها ـ و كل يحمل خنجرا بجانبه ـ أفكار ، أماني ، حاجيات أجتازها بدون فهم لمضامينها . و تقودني دائما تلك الموجة إلى ساحة غريبة حيث الجموع تتقاطر عليها كل يوم في بسيط أمام من يرفه عنها .
و أنا بدوري خلب لبي طيلة ساعات بانتباه مثل جاهل أمام كتاب عظيم مفتوح .
نعم إنها حقيقة، ساحة غريبة يهرع إليها من كل فج أناس يطلون برؤوسهم البيضاء ليروا ما يجري وسط الحلقة : كل العادات و تقاليد الجنوب مبلورة فيها .
في هذه الحلقات تتجمع و تفترق من الصباح إلى المساء جموع من المتفرجين حول بعض المشعوذين المتحركين بخفة ذكية .
هناك حلقة راقي الثعابين و الحيات يتحرك مزبدا ، منفوث الشعر أمام كيس من الجلد تنطلق منه ثعابين سوداء لامعة ، و الراقي يقفز حولها و يهيجها بقضيبه ذاكرا بعنف و خفة تراتيله المشيدة بالفضائل السحرية للأرض التي تدركها الثعابين أكثر من أي كائن حي ، و يطوح بشدة رقبته و رأسه ذي الشعر الطويل الأشعت ، بينما الدفوف تعلو دقاتها لتهيج الحيوانات ، و تثيرها إلى الوقوف على ذيولها في كبرياء ملاحظة الحركات الحادة للراقي بحركة هادئة ـ لا يدرك كنهها ـ برؤوسها المستوية المنتفخة ، إنها طقوس تجري على غير هدى ، لا أدرك منها غير المظاهر .
و كثيرا من الأحيان يترك الساحر زواحفه ليهتم برجل أو امرأة تخرج من صفوف المتفرجين للتقرب منه ، و تسر إليه بما يختلج في صدرها في أذنه ، و ينتهي آخر فصل من الدراما ، يعض الراقي الثعبان ثم يعض الزبون ، أو يأخذ الثعبان و يعضه في يدي السائل أو في عنقه كما يوضع الوشاح الحريري البراق ، ثم على الصدر من تحت الملابس في غمرته من حمى قرع الدفوف و دعاء الجمهور يبتعد عن المريض مزمجرا يملأ زبونه بلعابه السحري و الراغي بغزارة من شفتيه .
و هناك وجه آخر من وجوه التسلية يظهر في تهييء حلقة من طرف مساعد لبطل الحلقة : ذلك أن فارسا يمتطي صهوة فرسه يدخل وسط الجموع ، و يخطب فيهم ، ثم ينزل على الأرض و يأخذ كيسا كان معلقا بسرج الفرس و يفرغه من محتواه : التبن و الحشائش ، فيدقها ثم يشرع في أكلها داعيا جميع أولياء الله المسلمين ليشاركوه في الوليمة التي يهيئها أمام امتعاض الفرس الذي يرى الأولوية في أكل ما أقدم عليه فارسه .
و القصاصون المرتدون لألبسة أنيقة ، و يبدأون حديثهم بتلاوة أشعار مشفوعة بنقر منسجم يتخلل نقرتين أو ثلاثة حادة على دف صغير لاتزان الإيقاع و إيقاظ العقول و الإيماءات الطويلة بالأصابع و اليد و الأدرعة ، و الهيئة الجسدية الأنيقة جدا ، و الانزلاق الطويل على الأرجل الحافية ، و التمرير المتأرجح لرجل على الأخرى ، كل هذه التمتمات الثابتة بقاعدة أزلية تمثل وجها من وجوه " البالي " و صخب الجيران لم يؤثر لا على المتفرجين و لا على المنافسين لهذه الفرجة و الكل يجري بشكل أكاديمي .
و تعقد حلقة أخرى للشارح الأعمى الذي يصل نحو الساعة الخامسة عشية من الزاوية العباسية متكئا بيد على عكاز قصير ، و بأخرى على كتف الطفل الذي يقوده ، و في أسفل جدار عال ينعقد أمامه سوق لبيع الحمام كل صباح ، يجلس مستمعوه جامدين صموتين ينصتون إلى ما يلقيه عليهم من وعظ ، و أحاديث نبوية بصوت رتيب مثل حروف الهجاء بدون توقف و لو ثانية واحدة ، و لا القيام بحركة نابية سوى الإشارة بالعصا من أعلى إلى أسفل بشكل ميكانيكي ، تلك العصا التي تصاحبه في تنقلاته و التي تساعده أيضا في شروحاته كما تقوده في طريقه .
حلقة برغوت
برغوت رجل شهير في أوساط مراكش ، لقب يعبر حقا عن كل ما يتصف به البرغوت من حركات وسرعة ، و لسع ، و صعوبة الإمساك ، هزلي لا يضاهى ، بطن بارز تحت جبة من جيرسي قطني أبيض ، يضع تبانا ضيقا ملونا و قصيرا لا يتجاوز ركبتيه ، ساقان مكشوفان ، و تعلو رأسه شاشية حمراء دقيقة الرأس من النوع الذي يحمله أعوان المخزن ، عين تعبر عن دهاء و ذكاء ، و لحية نقرها الشيب فكل حركاته و ملامحه تبعث على الضحك ، و إذا لم يضحك فالناس يبتسمون ، و إذا ابتسم يضحكون ، و إذا ضحك يقهقهون ، و إذا بكى فهيجان .
و في هذه المدينة التي تعج بالمتسولين المصابين بعاهات مختلفة يختار برغوت أحدا منهم من ذوي العاهات البينة ، يجلسه وسط الحلقة يستدر شفقة المحيطين به لينفحوا المريض بصدقاتهم على نغمات ضرب الدفوف في جو من المجون و الكلمات البديئة ، فينصرف عنه من لم يتحمل رؤية الخروق في جسم الإنسان و لا سماع الكلام البذيء . ..
عشرون حلقة أخرى تجتمع و تتفرق حول هذا و ذاك ، و منهم بعض المهووسين الذين يتناولون شرب الماء الساخن أو يولجون في أفواههم شمعة مشتعلة مبللة في القاع .
هذه الرقصات و الأغاني و الموسيقى و الضجيج المصمم للآذان من الدفوف و الطبول ، هذه التسنجات و النفتات السحرية ، و النشوات البدائية بما فيها من تضليل و إزعاج و سرور ، تصاحبها بدون فتور التفاتات دينية بأيد مبسوطة للصلاة و الدعاء إلى الله و جميع الأولياء المسلمين ن و تنتهي بآمين مع رفع اليد فوق الرأس و على الجبهة و على الفم ، بحيث أن هذا الميدان الأحمق تنبعث منه طول النهار صلوات و دعوات أكثر مما يقام بالمساجد . . . "


و قبل رحلة الأخوين جان و جاك طارو سنة 1917 قدم الفرنسي دولامارتينييز وصفا دقيقا لساحة جامع الفنا في زيارته لمراكش سنة 1884 التي ترجمها الزميل لحسن لعسيبي جاء فيها :
" ما يهب المكان رونقا ، هو الامتداد الذي يبدو في الأفق لجبال الأطلس ، ثم صومعة الكتبية الشامخة في السماء ، و التي تكتسب لونا ذهبيا مع كل شمس أصيل مما يعطي للمكان منظرا أخاذا و آسرا ، ثم إن أكبر تجمع بشري يمكن أن تسعد به و تحتك به يوجد في ساحة جامع الفنا بالتحديد . كل المهن هنا ، باعة الخردة و قطع الحديد البالية و زجاجات قديمة مستعملة ، علب عتيقة ، و العديد من الأشياء المستعملة البالية القادمة في رحلة مثيرة من أصقاع بعيدة . ثم تجد أهل الحرف و المهن ، المتخصصون في وضع جبيرة الكسور ، و الحلاقون و أهل الحجامة ثم باعة الأدوية الشعبية ، و العديد من الباعة الآخرين . الجميع يجلس تحت خيام صوف ، فيما العطارون يعرضون موادهم على الأرض تتضمن بعضا من المواد المخدرة العجيبة ، مثل دقيق الثعابين المجفف في زجاجات خاصة ، و هياكل عصافير و بوم و حمام و عدد من الحيوانات المفترسة مثل الثعالب و السرعوب و زغب غزال الصحراء ، و عظام عدد من الحيوانات غير معروفة الأصل .. الكل موضوع فوق مصطبة من خشب متهالك .

و يعتبر وسط ساحة جامع الفنا المملكة الخاصة للحكواتيين و أصحاب حلقات الرقص و الغناء . هنا تجد جماعة من المتفرجين متحلقين ، يصغون باستغراق و بأفواه مفتوحة لمغن يحمل في يده دفا . هناك في الجوار ، تملك فرقة موسيقية شعبية قوة إجبار تجمع آخر من الناس على الجلوس للإنصات . إن المكان فضاء للتفريغ و الترويح عن الذات . و الجميع غير مهتمين بالقذارة المحيطة بالمكان . في حلقة أخرى ، نجد فرقة البهلوانيين المهرة ، و هي فرقة تعرف بسيدنا موسى ، و هم أناس قادمون من " تزروالت " ، ولهم دربة عالية في ممارسة الألعاب البهلوانية . أحدهم يعدو سريعا في مكان ضيق و يقوم بدوران على ذاته بسرعة فائقة ، فيما يقف متعاضدين في مايشبه سلما متشابكا في السماء ، رفاق له شداد ، حليقي الرؤوس ، و كلهم يرتدون بدلة موحدة فاتحة اللون و عليها صدريات سوداء مزينة برسوم بيضاء ..
مكان التجمع الأكبر في ساحة العروض بجامع الفنا هو ذلك الذي تكون فيه الفرق الغنائية الأمازيغية القادمة من سوس ، يكون هؤلاء مرتدين لباسا أبيض طويل له حزام ملفوف في الوسط و يضعون " رزة " على الرأس و يصطف جوارهم عدد من الفتية الذين يؤدون رقصات خاصة مثيرة .. ثم هناك في الجوار ، لاعبو النار الذين يتشبهون بأهل عيساوة .. إنهم يوهمون الناس بشرب النار و الماء المغلي .."
الباحث والأستاذ الجامعي يوسف ايت همو للاتحاد الاشتراكي:


ساحة جامع الفنا ضحية للهجوم الشرس لأنواع مختلفة من الثقافات العالمة



حاوره: هشام البومسهولي

الأستاذ الجامعي يوسف أيت همو أستاذ بكلية الآداب و العلوم الانسانية بجامعة القاضي عياض بمراكش ،الباحث و المفكر في الذاكرة الشعبية و التراث الثقافي من أهم الباحثين الدين تناولوا ساحة جامع الفناء من مختلف جوانبها انطلاقا من أبعاد متعددة وهو الآن في صدد الاشتغال على قاموس يخص كل مكونات الساحة،
في هذا الحوار سنتناول مع الباحث أيت همو الوضعية الراهنة للساحة ومصيرها المستقبلي ثم التفكير في سبل الحفاظ على ما تختزنه من تراث إنساني وكيفية ضمان استمرارية أداء دورها في تنمية هذا التراث:



بداية نشكركم على استجابتكم لدعوتنا في هذا الظرف الصعب و أنتم في حداد على فقدان والدتكم، فتعازينا الحارة لكم ولكل أفراد العائلة:
شكرا لجريدة الاتحاد الاشتراكي على هاته المواساة و على روح التضامن التي لمسناها من جنابكم ، بالفعل لقد فقدت والدتي هاته الأيام بعد أن فقدت والدي منذ شهرين فقط . أقول إنا لله و إنا إليه راجعون، حقيقة هي صدمة قوية لكن أمر الخالق لا مفر منه و ندعوا الله أن يسكنهم فسيح جناتهم .

أستاذ أيت همو، معروف عنكم النفس الطويل وأنكم دائما في عمل: الفن، الثقافة و البحث العلمي. باختصار: السينما ، الثراث الثقافي الوطني و الدولي والبحوث الأكاديمية لطلبة مغاربة و أجانب، فما السر في ذلك ؟
أولا مهنتي كأستاذ جامعي و في مؤسسة أفتخر بتاريخها الحافل تحتم علي العمل ليل نهار باعتبار أن البحث العلمي ليس له وقت محدد و يستلزم التضحية القصوى بوقتك و صحتك و مالك وكل ما تملك من قدرات من أجل اقتسامها مع الأخر. ثانيا السينما بالنسبة إلي هي ارث من والدي رحمه الله بعد أن كانت جزء من حياتي منذ الطفولة.ُ ثالثا، المسألة الثقافية في بلدنا تحتم علينا كأكاديميين العمل على المحافظة عليها ، دعمها و ضمان استمراريتها للخلف والتعريف بها.
حديثنا عن الثقافة يدفعنا الى الحديث عن الساحة الشهيرة بمراكش : ساحة جامع الفنا . في نظركم ماذا وقع للساحة و ماذا بقي منها ؟
الحديث عن ساحة جامع الفنا هو بالضرورة حديث عن الصراع الدائر منذ الأزل بين الثقافة الشعبية و الثقافة العالمة و ثقافة العولمة. ذلك أنه أصبحت ساحة جامع الفنا ضحية الهجوم الشرس لأنواع مختلفة من الثقافات العالمة والعالمية.
كيف حدث هذا التداخل ؟
يجب التذكير هنا أن ساحة جامع الفنا تمر منذ ولادتها بفترات متعاقبة : فترة الازدهار و فترة الانحطاط الثقافي و اللأخلاقي و التخلف الاجتماعي. ويكمن هذا الانحطاط في فقدان الساحة لمجموعة من معالمها و روادها بالإضافة الى غياب الخلف. والأخطر من هذا هو الانحطاط في المخيلة الشعبية و العالمة حيث أصبحت تنعت بكل النعوت السلبية و الخشنة و المذلة بعد ما كانت ، أيام أوجها، جامعة للمعرفة وللأخلاق الحميدة وللقاء البناء بين الثقافات و الأشخاص و مختلف الهويات.
هل يمكن القول أن الساحة فقدت خصوصياتها؟
أعتقد أن الساحة فقدت العديد من خصائصها و مميزاتها خاصة كل ما هو ثقافي ، فأينهم رواد الحلقة ، الحكواتيين ،رواد الأغنية الشعبية؟ أين هي القاعات السينمائية المحيطة بها ؟ أينهم الكتبيون الذين عملوا على تربية أجيال وأجيال؟
الحديث عن ساحة جامع الفنا الآن لا يعني البكاء على الأطلال بل هو استخلاص العبر من الماضي لإعادة الروح والمجد للساحة العتيقة و التي بالمناسبة سنحتفل قريبا بالذكرى العاشرة لإعلانها تراث إنساني عالمي من طرف اليونسكو. و أعتقد أن السبب الرئيسي لهذا التشريف الذي نفتخر به كمراكشيين ومغاربة بغيرة قصوى هو كون الساحة ترسخ للمبادئ الكبرى للثقافة الشعبية ذات البعد الإنساني و لقيم التسامح و التكافل و التعايش مع الأخر.
ما نأسف له اليوم هو غياب هذه القيم أو على الأقل احتضارها في المخيلة المغربية و الأجنبية. لقد ضاع رواد الساحة و انقرضت جل معالمها الثقافية و الحضارية و فقدت مجدها لكن لم تفقد روحها.
هل ماتت ساحة جامع الفنا ؟
يقول المثل الشعبي " ما تيموت غير الشماتا" فمادامت الساحة امتداد للثقافة المراكشية و المغربية فهي ستعيش الى الأبد . ساحة جامع الفنا لن تموت لأن عملها لم ينقطع مادامت قد أعطت علما ينتفع به في مجالات مختلفة و" أولاد" يدعون لها بعد أن عشقوها و أكرمت إبداعاتهم الفنية و الفكرية ك : الكاتب الاسباني " خوان كويتيصلو" ، و الفنان القدير " الطيب الصديقي" و الأستاذ " محمد حسن الجندي" و آخرون. وما دامت الساحة بها روح التكافل و التعاضد ولو بنسبة ضئيلة مقارنة مع الماضي فهي صدقة جارية.
ما العمل الآن لإنقاذ ساحة جامع الفنا ؟
في هذا الاطار يجب الحفاظ على الذاكرة الشعبية للساحة من خلال التوثيق لما بقي في الذاكرة لدى الجمهور المراكشي و غير المراكشي أي أصبح من الضروري تكوين بنك للمعلومات تسجل به كل الشهادات للجمهور الوفي و الذي عاصر رواد الساحة في مختلف فتراتها ( الازدهار و الانحطاط). فاذا غاب الرواد فان الشهادات سوف تحافظ على بصمات الساحة و ذلك من أجل التوثيق و الاستعداد لعودة فترات المجد و الازدهار.
هل يمكن لكم التوضيح أكثر مسألة توثيق تراث ساحة جامع الفنا ؟
التوثيق للشهادات و البصمات لساحة جامع الفنا يجب أن يتم حسب المعايير العلمية و الأكاديمية المتعارف عليها و يشرف عليه خبراء في مجال السمعي البصري و الدراسات السوسيولوجية و الأنتربولوجية…كما أن عملية التوثيق كما أراها تتم عبر مسح شامل لكل الشهادات ، تصنيفها ووضعها رهن إشارة الباحثين و المتخصصين و عشاق ساحة جامع الفنا.
كما أدعو الى بناء متحف تجسيدي لرواد الساحة بلباسهم الأصلي و أدواتهم و عرض بعض تسجيلات الفيديو و ذلك على شاكلة متحف "كريفان Grévin بفرنسا .
يلاحظ المتتبع أن ساحة جامع الفنا تعاني : الفوضى ، العشوائية و اللامسؤولية ، ما رأيكم ؟
ما تعاني منه الساحة الآن هو الفوضى العارمة : فوضى الأصوات ، فوضى تمركز الحلقات، فوضى حركات الجمهور و فوضى على مستوى التدبير. الساحة في حاجة الى توحيد الجهود و توحيد الرؤيا من أجل تدبير معقلن و جيد يوازي بين كل مكوناتها الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية.
قلتم فوضى الجمهور ، هلا تفضلتم بشرح معنى ذلك ؟
أعتقد أن هناك نوعان من جمهور ساحة جامع الفنا : أولا الجمهور الذي له القدرة على قراءة و فك شفرات الساحة ( فهم خطاب الحلقات، فهم تواجد الجسد بالفضاء…) ثانيا الجمهور الذي لا يملك هاته الكفاءة. هذا الأخير له علاقة تنافرية مع الساحة و التي يحاول من خلالها تقزيمها فقط في ساحة للأكل و وكر للحالات الشاذة و بالتالي يصنفها ضمن الصور النمطية السلبية . أضيف أن هذا النوع من الجمهور في حاجة الى بيداغوجيا تساعده على فك رموز الساحة و على تغيير مواقفه السلبية اتجاهها و ذلك من خلال مجموعة الكتب و المؤلفات البسيطة و الرخيصة الثمن من أجل استيعاب و فهم المقاربة الثقافية و الفنية للساحة.

في هذا الصدد أخبركم و حصريا لجريدة الاتحاد الاشتراكي أنني بصدد انجاز " قاموس ساحة جامع الفنا" و هو مشروع في لمساته الأخيرة و سوف يصدر السنة المقبلة ، و فيه أحاول تعريف الساحة و عوالمها ، شخصياتها، مصطلحاتها، جغرافيتها و أزماتها…
في ظل هذا الوضع المتردي للساحة ما هو دور الجامعة في النهوض بأوضاع الساحة؟
أعتبر أن جامعة القاضي عياض لم تقم بواجبها الثقافي و العلمي اتجاه ساحة جامع الفنا ، فلقد أهملت هذا الفضاء الثقافي و احتقرته و لم تعره أي اهتمام ولم تجعله موضوع للبحث الأكاديمي ويلاحظ الجميع غياب لخلايا أومجموعات للبحث حول الساحة. كذلك هناك غياب للدراسات السوسيولوجية ، الأنتربولوجية واللسانية و التي لو كانت متوفرة لساهمت في معرفة أعمق للثقافة الشعبية و لساهمت في الحفاظ على البعد الاجتماعي و الثقافي لساحة جامع الفنا. أتأسف أن انفتاح الجامعة على محيطها الثقافي و إشعاعها لا زال منعدما.
إذن غياب مؤسساتي للبحث في الساحة واضح بجلاء، ما هي إذن مبادرتكم الشخصية في هذا الإطار؟
لقد حاولت في اطار بحوث السنة الرابعة بكلية الآداب و العلوم الإنسانية تشجيع الطلبة على دراسة الساحة من الجوانب السيميولوجية و اللغوية. لقد حاولنا تجميع و تصنيف المادة اللسانية الخاصة ببعض الحلقات و قمنا بتسجيل بعض المعطيات اللغوية لبعض الحلقات و ذلك قصد تكوين بنك للمعلومات.
و تجدر الإشارة أن مجموعة كبيرة من الطلبة الأجانب : فرنسيين، ايطاليين، سويديين، أمريكان…قد قمت بتأطيرهم في فهم و دراسة المجالات الثقافية لساحة جامع الفنا.
وأغتنم الفرصة للتنويه أكثر به هو العمل القيم الذي قام به المخرج الألماني "طوما لادنبركر" Thomas LADENBURGER الذي أنجز فيلما رائعا حول الحياة اليومية الحكواتي " عبد الرحيم المقري " المعروف بالأزلية و الذي يعتبر أحد أعلام و رواد ساحة جامع الفنا. اسم هذا الفيلم " الحلقة في دائرة الحكواتيين" ولقد سبق لجريدتكم أن قامت بتغطية العرض الأول لهذا العمل المتميز بالمدرسة العليا السينما للفنون البصرية بمراكش.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا ، أنه في غياب الجامعة هل للمؤسسات الثقافية المتواجدة بمراكش دور في دعم الحركة الثقافية لساحة جامع الفنا؟
سؤال مهم فعلا، نعم غياب الجامعة ،كما سبقت الإشارة الى ذلك، يقابله حضور المؤسسات الثقافية الأجنبية باحتضانها في بعض الأحيان لبعض رواد الحلقة من خلال أنشطتها الموسمية.
هل ساحة جامع الفنا ضحية أو إذا صح التعبير فريسة ؟
هناك عنف يمارس اتجاه الساحة من طرف جهات ثقافية و تجارية معينة تفرض من خلالها أنشطة ترفيهية تستدعي تجمهرا واسعا بالفضاء المحاذي لمفوضية الشرطة و هو ما يخلق ارتباكا واضحا و عنفا شديدا على المقومات الثقافية الشعبية للساحة. فضجيج الشاشات العملاقة و مكبرات الصوت يؤثر سلبا على رواد الساحة نفسيا و اجتماعيا.فمراكش تزخر بفضاءات أكثر اتساعا من ساحة جامع الفنا و أسهل إحكاما تنظيميا لدى فإقامة حفلات لنجوم أجانب من الأحسن أن تكون في فضاءات غير جامع الفنا.
نفهم من جوابكم أن ساحة جامع الفنا تعاني التلوث بشتى أشكاله ؟
بعدما كانت ساحة جامع الفنا فضاء يشبع قناعة الانسان البسيط أضحت اليوم حلبة لجشع التجار و المضاربين دون التفكير في الهم الثقافي و الموروث الحضاري و تاج اليونسكو الذي نفتخر به.
ما بقي الآن من ساحة جامع الفنا هو الفتات الثقافي و الأخلاقي. لكن يبقى الأمل دائم حيث يمكن اعتبار هاته الفتات بذور لبناء مستقبل جديد و أكثر إشعاعا و يطابق التطلعات الثقافية لرواد الساحة، لأبناء مراكش ، لكافة المغاربة ولكل الغيورين على ساحة جامع الفنا.
لقد أصبحت الساحة فضاءا للصم و البكم الذين لا يشبعون من الأكل و الشرب، وأصبحت الحلقة منتوج تجاري لا قيمة لها، كما أن " شناقة" و مرتزقة الحلقات يقتلون مفهوم الحلقة و الفرجة الهادفة.
نعم تعاني الساحة من التلوث و من ايكولوجيا الموت و الاحتضار. تلوث على مستوى الفرجة ، الحلقة ، السلوكيات و الأخلاق دون أن نغفل أن التلوث حاصل في تصورات البعض و متخيلهم حول ساحة جامع الفنا و مراكش اللذين يختزلان في " الفرد" و " الأكل".
الأستاذ يوسف أيت همو، هل للإعلام دور في دعم و الترويج ثقافيا لساحة جامع الفنا ؟
بالتأكيد ، جل وسائل الإعلام تروج بصفة أو بأخرى لساحة جامع الفنا، لكن ما يؤسف له أن جل الحملات الإعلامية تصب في الزاوية التجارية و استقطاب أكبر عدد من الزوار للساحة ، للمدينة و للمغرب بصفة عامة. الأجدر أن تكون الثقافة التي توثت الساحة العتيقة هي الدافعة الأساسية لكل الخطابات الإعلامية و بالتالي جلب السائح بمنطق حضاري متميز لأن علاقة الإعلام بالقارئ يجب أن تكون مبنية على الثقة و جلب المتلقي (الذي أصبح ذكيا) حول اكتشاف الموروث الثقافي للساحة وليس بيع المنتوج السياحي فقط.
ما هو اقتراحكم في هذا الصدد ؟
أود أن تكون لدينا قناة تلفزية تشرف على التعريف و المتابعة اليومية لساحة جامع الفنا حيث تبث مباشرة عبر الهواء و عبر الانترنيت مثل ما نتابع العديد من المدن العالمية و الساحات الشهيرة و حتى من الفضاء الخارجي للأرض. خير مثال هو قنوات البث المباشر للأماكن المقدسة حيث يبقى المشاهد مشدوها أمام عدة وضعيات للكاميرا ودون تدخل للعنصر البشري. أضيف أننا بإمكاننا العمل على استغلال القنوات الإذاعية الجهوية و الوطنية للبحث في التراث الغني للساحة و قد شاركت في هذا الصدد في عدة برامج إذاعية بمحطات محلية و التي لقيت تجاوبا و نسب استماع قياسية ،هذا دليل على حب المغاربة لهويتهم و ثقافتهم و شغفهم لكل ما هو تراث شعبي، ارث ثقافي و خصوصية حضارية.
ومن خلال ما قلنا سالفا وكمحاولة للمضي قدما لإنقاذ ما يمكن انقاذه هناك مجموعة من الاقتراحات ذات الصبغة العملية :
- 1 – أقترح أن يخلد يوم وطني خاص بساحة جامع الفنا يتم فيه الاحتفاء بروادها القدامى و الجدد والتفكير في حال و مآل الساحة. و في هذا اليوم يتم تكريم أحسن حلقة ذات بعد ثقافي و تكريم أصغر حكواتي.
2 - يجب الحماية القانونية لرواد الساحة و ذلك بحماية حقوق الملكية الفكرية: الحق في الصورة, استخلاص المستحقات من كل استغلال إعلامي مكتوب, إذاعي أو سمعي بصري لرواد الساحة.
3 – البحث عن صيغ للتغطية الصحية لرواد ساحة جامع الفنا.
4 – البحث عن صيغ للتفاعل الثقافي بين ساحة جامع الفنا و المؤسسات التربوية : زيارات متبادلة ( الحكواتي , الطلبة و التلاميذ …).
5 – رد الاعتبار للكتاب بالساحة.

في كلمة أخيرة ماذا تودون قوله؟
شكرا لجريدة الاتحاد الاشتراكي و مكتبها بمراكش و شكرا لكم على فتح العدسة و وضع ساحة جامع الفنا تحت المجهر وكذا الشأن الثقافي بصفة شمولية، كما أدعوا الغيورين على هاته الساحة للتحرك كل من جانبه بكل مسؤولية و غيرة حفاظا على مقوماتنا الثقافية و رحمة بالساحة التي أعطت و لازالت تعطي، فقط وجب الالتفاف إليها بعناية مركزة.